نشر أب أمريكي تعليقا يعبر فيه عن تعجبه من أمر عجيب. هذا الأب له ابنتان، الأولى متفوقة دراسيا حتى ضموها لفصل خاص لأمثالها لمساعدتها على التفوق الدراسي، والثانية تعثرت دراسيا وحين كانت تحرز درجات المرور وعدم الرسوب فرحت العائلة كلها. حتى الآن لا عجب، فالعجب يأتي حين مرت الأيام وتخرجت المتفوقة وبحثت عن وظيفة فلم تجد سوى معلمة في حضانة أطفال براتب ضعيف، بينما الثانية أسست شركة مستحضرات تجميل خاصة بها تدر عوائد سنوية قدرها 2 مليون دولار.
حتى أنت الآن، ستقلب الأمر في عقلك ثم تقول لي هذه حالة وحيدة لا يمكن أن تبني عليها نظرية، لكنك من داخلك تعلم أن هذا ليس صحيحا، فالمتفوق دراسيا نهايته إما أستاذا جامعيا أو موظفا في رتبة عالية، وحتى هؤلاء نسبتهم قليلة، فالكثير من المتفوقين دراسيا إن لم تتلقفهم جهة حكومية تنفق على نبوغهم فللأسف سيخبو نجمهم ويضيع حلمهم ويعيشون حياة تقليدية غير التي كان الناس يظنون أنهم سيصبحون عليها. أرجو عدم التسرع، أنا هنا لا أهاجم المتفوقين علميا ودراسيا، أنا هنا ألفت الانتباه إلى أن التفوق الدراسي وسيلة وليس الغاية.
من الصفر إلى الواحد
هذه النقطة تناولها بيتر ثييل في كتابه الممتاز
من الصفر إلى الواحد ، (هذا العنوان كناية عن الدعوة للابتكار والانتقال من لا شيء إلى الواحد، وعدم التركيز على التقليد، والذي هو الانتقال من الواحد إلى ما لا نهاية). بيتر ثييل نفسه مثال على هذه النقطة، فهو خريج الحقوق وتخرج ليتفوق بعدها في مجال المحاماة حتى أنه ترشح للعمل ضمن فريق المحكمة الدستورية العليا الأمريكية، لولا أن طلبه قوبل بالرفض وهو ما كان له الوقع النفسي الشديد عليه، فهو كان يظن أن هذه الوظيفة هي منتهى أحلامه. ما حدث بعدها أمر تقليدي يعرفه قارئ قصص النجاح الكثيرة في مدونة شبايك، ذلك أن هذا الرفض دفعه للعمل على مشروع ناشئ اسمه باي بال.
الشغف المدمر بالمنافسة
يرى ثييل أن النظام الدراسي العالمي الحالي هو انعكاس لشغف البشر الشديد بالمنافسة، لا لشيء سوى أننا معاشر البشر نحب المنافسة وهذا الولع ينسينا لماذا تنافسنا في المقام الأول. المدرسون يزكون هذه الروح التنافسية بين الدارسين، ذاكر جيدا لتسبق منافسك فلان الذي تغلب عليك في درجات الشهر الماضي. احذف الترفيه من حياتك حتى لا تتقدم عليك زميلتك الجامعية فكيف لبنت أن تسبق شابا واعدا. تحمل يا فتى فأنت في السنة الجامعية الأخيرة ويجب أن تحرز أعلى الدرجات لتكون أول الدفعة وتحصل على الامتياز والتقدير.
ثم ماذا؟
بعدما تحقق لهم الدرجات العلى، تجدهم يطالبونك بأن تحصل على الوظيفة الفلانية، وربما ساعدوك بواسطة تظلم بها غيرك، وبعدها يطالبونك بأن تنافس زميلك فلان، ثم تنافس غريمك علان في السوق، ومن منافسة لحرب لقتال لنزاع حتى لتظن أنك تحرر القدس. بعد فترة من الوقت ستجد أن هذه الروح التنافسية تشغل نظرك عن حقائق كثيرة.
لماذا ندرس جميعا؟
ببساطة، لتحصل على حياة أفضل. الآن، ما هو تعريفك للحياة الأفضل؟ هل هي أن تعيش وأنت تعرف أنك أفضل من جارك وأحسن من قريبك وتتفضل على صديقك الذي تعرفه على الرغم من أنه أقل من مستواك؟ بالتأكيد لا، لكن بكل أسف، ننزلق دون أن نشعر لأن نفعل ذلك ونفكر بهذه الطريقة. أنت تريد لابنك أن يكون أبز من أقرانه، ولبنتك أن تكون أفضل من نساء العالم وهكذا.
هل المنافسة خطأ؟
نعم و لا. معضلة هذا العالم هي أن كل شيء له حدود فضلى وأخرى خطيرة، وهذه يسمونها التفريط والإفراط، والمعضلة هي أن الحدود الفاصلة بين الإفراط والتفريط غير واضحة المعالم، تدركها دون أن تراها، و فوق كل هذا، هذه الحدود تتغير بتغير الوقت. المنافسة مطلوبة لكنها وسيلة لا الهدف. البشر بدون منافسة تميل للتكاسل والتقاعس. الكثير من المنافسة يدفع البشر للجريمة وللقبيح من الأفعال، بما يضرهم ولا ينفعهم ويشغلهم عما كان يجب عليهم الاهتمام به، و الانسان يعيش حياته مترددا بين الإفراط والتفريط.
اضرب لنا أمثلة
مايكروسوفت شركة تعمل في مجال برمجة التطبيقات وأنظمة التشغيل. جوجل شركة تعمل في مجال البحث على انترنت والإعلانات. بدلا من أن يركز كل منهما في مجال، شرعا في دخول منافسة طاحنة، وبدأت حروب تدور ما بين ويندوز و كروم او اس، نيكسيس و سيرفيس، متصفح كروم و اكسبلورر، جوجل و بينج، اوفيس و دوكس، وهكذا. ماذا حدث بعد اشتعال هذه المنافسة؟ في يناير 2013 كانت القيمة السوقية لشركة منافسة اسمها ابل 500 مليار دولار، في حين كانت القيمة السوقية للغريمين جوجل و مايكروسوفت 467 مليار دولار مجتمعين. 3 سنوات قبل هذا التاريخ، كانت القيمة السوقية لابل أقل من تلك لمايكروسوفت أو جوجل منفصلين! الحرب التنافسية أمر مكلف للغاية.
الويل كل الويل حين تتحول المنافسة من تجارية لشخصية
مثال آخر طريف حدث في 1996، حين اشتعلت منافسة ما بين مؤسس أوراكل و مؤسس شركة منافسة اسمها انفورمكس. لاري اليسون مؤسس أوراكل كان من النوع الذي يصنع أعداء له ومنافسين لكي يجعل موظفيه يشعرون وكأنهم في ساحة حرب، على أمل تحفيزهم أكثر. ما حدث هو شركة انفورمكس وضعت إعلانا ضخما بالقرب من مقر أوراكل قالت فيه: احترس، الديناصورات تمر من أمامك، في إشارة إلى أن شركة أوراكل (والتي تظهر في خلفية الإعلان) كبيرة جدا مثل الديناصورات المنقرضة.
قام لاري اليسون بالرد بأن وضع إعلانا ضخما بالقرب من مقر انفورمكس يشير إلى إنها أبطأ من الحلزون. استمرت هذه التصرفات الصبيانية حتى استيقظ مدير انفورمكس ذات يوم على فضيحة محاسبية في شركته دمرتها وأرسلته للسجن. هل لو كان مدير انفورمكس انشغل أكثر بأمور شركته بدلا من المنافسة الشخصية لتمكن من اكتشاف مشاكل شركته وحلها؟
المنافسة مطلوبة مثل الملح، حسبك القليل منه لا أكثر.
يجب عليك أن تؤمن بالأسرار
منذ قرنين، لم يكتشف الانسان كل بقاع الأرض، وكان هناك على الخريطة الجغرافية أماكن لم يصلها البشر بعد، وكان الناس حين يسمعون قصص وحكايات المستكشفين، كانوا يتمنون أن يكون مستكشفين بدورهم ويكتشفوا المزيد من الأسرار. اليوم مجلة ناشيونال جيوغرافيك تعرض لك صورا لأماكن غريبة وعجيبة ومثيرة، في كل بقعة من الأرض، ما قضى على إثارة الاستكشاف. اليوم، يسود الناس قناعة بأن العالم كشف كل أسراره وبالتالي لم يعد هناك جديدا لنكتشفه، وهذه قناعة كاذبة مدمرة.
رحلة شركة اتش بي من القمة للتقليدية
في عالم الشركات، هناك دائما أسرار تنتظر من يكشف غموضها، الإدارة القديمة لشركة اتش بي HP كانت تؤمن بهذه النظرية ولذا وظفت المهندس توم بيركنز في 1963 ليرأس قسم الأبحاث في الشركة. في عام 1990 كانت القيمة السوقية لشركة اتش بي 9 مليار دولار، ثم طرحت في 1991 أول طابعة حبر ملونة بسعر اقتصادي، ديسك جيت 500 سي (DeskJect 500c) ثم في عام 1993 طرحت لابتوب اومنيبوك وهو كان خفيفا سهل الحمل (في وقته) ثم في العام التالي طرحت طابعة اوفيس-جت OfficeJet أول طابعة شاملة تتضمن ماسحة ضوئية وجهاز فاكس معا. في عام 2000 كانت قيمة الشركة السوقية بفضل هذه الابتكارات 135 مليار دولار. في عام 2010 كانت قيمة الشركة السوقية 70 مليار دولار. ما الذي حدث؟
في 2005 كان هناك فريقان يديران الشركة، الفريق القديم بقيادة بيركنز والذي كان يرى أنه يجب على اتش بي أن تبحث عن أسرار جديدة لتكتشفها وتوفرها في صورة منتجات جديدة، وفريق آخر، بقيادة باتريشا دان رئيس مجلس الإدارة وهي امرأة استقت جل خبرتها من العمل في مجال البنوك الممل، هذا الفريق الأخير أصر أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان وأن الأسرار اكتشفت كلها ولم يعد هناك جديد لتقديمه وللأسف فاز هذا الفريق. النتيجة معروفة، بنهاية عام 2012 كانت القيمة السوقية للشركة 23 مليار دولار.
هناك دائما أسرار تنتظر من يكشفها، إذا لم تؤمن بهذا فاعرف أنك تقليدي ممل، أما إذا آمنت بذلك، فاعلم أن المستكشف يصيب ويخطئ، وإذا كنت تخجل ويصيبك الذعر من أن تضع نظرية ما ثم تكتشف خطئها وتعلن خطئك، فمن الأفضل لك أن تنضم لمعسكر التقليديين المملين، وانتظر حتى يأتي مستكشف فعلي ينجح فيما فشلت فيه. الاستكشاف لا يعرف الخوف أو الخجل من الوقوع في الخطأ.
(لهذا السبب لا أجد فائدة من الإعلان على انترنت لمدونتي، فهذه الإعلانات حين جربتها أتت لي بالسلبيين التقلديين المشككين (إلا من رحم ربي)، الذين لا يفعلون شيئا سوى التشكيك في مقالات المدونة وترك سمومهم الفكرية وإحباطهم ثم الرحيل. الإيجابي الباحث عن إيجابيين مثله سيعثر علينا وحده، دون حاجة لإعلان!)
مقتطفات قصيرة لأفضل ما جاء في سياق كتاب من الصفر إلى الواحد
في 2005، قام ديفيد شو وهو فنان جرافيتي، بـدهان حوائط مكتب شركة جديدة اسمها فيسبوك، وطلب أن يكون أجره في صورة أسهم في الشركة لا نقدا (رغم عدم اقتناعه بفكرة فيسبوك إلا أنه آثر المغامرة). سبع سنوات وفي عام 2012 كان نصيبه من هذه الأسهم يعادل قرابة 200 مليون دولار.
تطلق الصحافة على الفريق الذي وظفه واختاره وانتقاه بيتر ثييل (أو تيل) في بدايات تأسيس باي بال لقب:
مافيا باي بال، لأن كل واحد من هذا الفريق خرج بعد بيع باي بال إلى إيـباي ليؤسس مشروعا جديدا، قيمة كل مشروع من هذه المشروع لا تقل قيمته السوقية اليوم عن مليار دولار، وهم إيلون مصك مؤسس سيارات تيسلا و سبيس اكس، رييد هوفمان مؤسس موقع لينكدإن، الثلاثي ستيف شن – شاد هارلي – جواد كريم والذين أسسوا موقع يوتيوب، جيرمي ستوبلمان و راسيل سيمونس وأسسا موقع يلب Yelp وديفيد ساكس شارك في تأسيس يامر Yammer، بينما بيتر ثييل نفسه أسس شركة تقنيات بالانتير
Palantir
الناس تكره أن يبيع لها أحد أي شيء، ولذا تجد المسمى الوظيفي لرجال المبيعات والتسويق والاعلانات: مسؤول حسابات تنفيذي أو مدير تطوير الأعمال.