- الكتاب: الإسلام والطاقات المعطلة
- الكاتب: الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله
- الطبعة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
- عدد الصفحات: 176 صفحة
- تلخيص: أروى العبادلة
إنّ أمماً شتى تغزو الفضاء بعدما انتصرت على الأرض. في حين أن جماهير المسلمين – بعد رقاد طويل – شرعت تفتح عينيها لترى أين تضع قدمها في أوائل الطريق الطويل!
- كيف جمدت هذه الأمة؟
- وكيف تنطلق؟
- وعلى من تقع التبعة؟
- وما قيمة مواريثها الروحية والفكرية؟
- وهل هي عائق ينبغي أن يزاح ؟ أم مصدر حياة يجب أن ينمى؟
في هذا الكتاب الموجز إجابات على هذه الأسئلة المتتابعة. فقد تساءل المؤلف الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – عن سرّ الفتور الشائع في الأفراد والجماعات؟ ولماذا يستقبل الناس الحياة وبهم إزورار عن مواجهتها، وصدود عن مذاقها؟ ولماذا نرى الأجناس الأخرى تنطلق مع مطلع الشروق وكأنها على أبواب رحلة ممتعة؟
لنقلها صريحة: فإن أمتنا محتاجة إلى أن تجيد فن الحياة. وقبل أن تصل إلى درجة الإجادة المنشودة، لن يصلح بها دين ولا دنيا.
إن الطاقة البشرية في هذه النفوس لا تزال مادة غفلا, كأنها معادن مرمية في مناجمها لم تستخرجها يد، أو كأنها بعض قوى الكون المجهولة لما تكتشف بعد.
طاقات معطلة
إن الطاقة الكبرى في الشباب – الذي يجتاز من عمره مرحلة التوقد والمغامرة – تدعو للرثاء، لما فيه من ركود العزم وانطفاء الأمل.. يريد أن يطعم وهو قاعد، وأن يسعد وهو نائم، وألا يلقى الحياة إلا وهي تهب رخاء، لا تجهم فيها ولا رعد، ولا غيم فيها ولا وحل.
- كيف السبيل إلى تصحيح المعاني الإنسانية المجردة في هذه النفوس التي استعجم بعضها وتحجر البعض الآخر؟
- ماهي العوائق والمثبطات ؟
- وماهي الحوافز والمرغبات؟
- هل الدين هو المسؤول؟
إن ذلك ما نحاول بحثه والإجابه عليه.
قال أحدهم: إن الأديان – إجمالاً – تبغض الحياة للناس، وتصدهم عن الإقبال عليها، وتوجه آمالهم إلى الدار الآخرة. ومن هنا فإن طبيعة الشخص المتدين تقوم على قلة الاكتراث بالدنيا أو التعويل عليها ويتبع ذلك عجز عن تعميرها، أو زهد في أخذها، أو تقصير في آداء حقوقها!
قلت: ما أحسب هذه طبيعة الأديان على العموم، وأجزم بأن الإسلام بريء كل البراءة من هذه النزعة.
إن الإسلام يقيم أركان الإيمان على فهم الحياة بصدق، والتصرف فيها بعقل وأمانة، والقيام برسالتها إلى آخر رمق.
ولعل أقرب ما يصور هذه الحقيقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها”. إنه الأمر بمواصلة أسباب الحياة، في الوقت الذي تستحصد فيه الحياة … وممن صدر ؟ صدر من نبي يوجه البشر للآخرة، ويحث الناس على كره جحيمها وحب نعيمها ..
وقد يبدو هذا الأمر متناقضًا في بواعثه وغاياته. وهو متناقض حقاً لو أن وظيفة الإسلام بناء الآخرة على أنقاض هذه الحياة.. لكنه ليس كذلك، إنه جعل صلاح الآخرة نتيجة حتمية لصلاح الأولى. وقد أبان القرآن الكريم لنا أن البشر لم يطرقوا هذا العالم ضيوفًا عليه أو غرباء فيه، بل جاءوه ملاّكًا مسودين، وقطانًا قادرين، و وضعت تحت أيديهم مفاتيح كل شيء ليتقلبوا في أرجائه كيف شاءوا.
قال تعالى :{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (13)
فإذا مرت الأيام ولم يتفكروا الأقوام، ولم يستخدموا ما سخر لهم هنا وهناك فمن الملوم؟ أدين الله؟
وإذا بين الله للإنسان أنه سيّد هذه الأرض، الممكّن فيها، فجاء الإنسان إلى قطعة من هذه الأرض فعبدها، وأحنى صلبه أمامها وألغى عقله قلبه بإزائها، فمن الملوم؟ أدين الله؟
إن الله تبارك وتعالى أبدع هذا العالم وشحنه بالخيرات وقال للإنسان: اعرف عظمتي عن طريق التأمل في إبداعي، وتشبع من هذه الخيرات واحمدني على آلائي، والزم هذه الخطة حتى لا تضل ولا تشقى.
إنّ الإسلام رسم خطًا مشرقًا للحياة الإنسانية على ظهر الأرض، وأي تال للقرآن الكريم يعلم أن الله أعرق ما في الإنسان من خصائص، وطلب إليه أن يديم الخطو بين فجاج الأرض وآفاق السماء وهو مفتوح العين ذكي النظر مرهف الحس. إن الإسلام لم يقيد هذه الإباحة المطلقة إلا بشيء واحد؛ أن يشعر بأنه مهما طال به المدى فهو عائد إلى ربه ليقدم حسابًا دقيقًا عما صنع. والدين يذكّر الناس بالموت لا ليكفّوا عن السعي، أو يتوقفوا عن الحركة، بل ليكون سعيهم راشدًا وحركتهم رزينة.
إن العمل للحياتين: الدنيا والآخرة قد وصل الإسلام أطرافه و ربط بعضه ببعض، فإذا رأيت طاقات معطلة، وأعمالاً مهملة، وواجبات مهددة، فثق أن الذي ضاع من دين الله لا يقل عن الذي ضاع من دنيا الناس، وثق أن الانهيار النفسي الذي جر هذا الضياع قد أصاب الإيمان والخلق بمثل ما أصاب الحضارة والعمران.
الكفر بالإنسان
ويتبع الكفر بالحياة, وجهل وظيفة المرء فيها، الكفر بالإنسان نفسه، وبخس قيمته وتشويه حقيقته. فيسئ المتدين المنحرف تصور الملكات والشهوات الإنسانية، وينظر إليها نظرة ازدراء، إلاّ أن الله كرّم الإنسان وأنشأه خلقًا آخر، خلقًا مكرمًا يختلف عن الحيوانات بما أودع في بنائه المعنوي من خصائص وأسرار. خلقًا إذا ما بلغ نماؤه الصحيح، كما تنمو الشجرة من بذرتها السوية، فاق الملائكة، وحلّق في الملأ الأعلى. وربما كانت الحملة على الإنسان كسرًا للغرور الذي يشيع بين جم غفير من الناس، وكفكفة لشرور الكبر والاستعلاء التي تفسد الأخلاق، والإنسان بلا ريب محتاج إلى الحساب الدائم والرقابة الدقيقة، ولفته إلى عيوبه كي يتركها، خير لا شك فيه؛ إلا أن الأمر انقلب – مع المربين الأغرار – إلى الضد. إنهم لم يفلحوا في إزالة الزوائد الضارة وحسب، بل اجتاحوا الأصل نفسه، وذلك عندما حاولوا قتل الغرور في إنسان مغرور، بلغوا في الجور حدًا جعله يفقد الثقة بما عنده.. فذهب الكبر، ثم ذهبت أيضًا عزة النفس.. ثم ذهبت كذلك الشخصية الحرة المستقلة. وعلى خلافه التواضع؛ على أنه يعد فضيلة محمودة، بيد أننا لم نجن من هذا الإسلوب في غرسها، إلا خلق جيل موطئ الظهر لكل معتدِ، وتكوين أناس يحتقرون أنفسهم من الصميم، ومن ثم لا يصلحون لعمل عظيم.
لابد – لكي تتم رسالة الإنسان في الحياة – من احترام ملكاته، وإقرار شهواته. لابد من إنماء مواهبه العالية، وترك رغائبه الطبيعية تتناسب وفق مقتضيات الفطرة السليمة. لا بد من تهيئة الجو الخاص والعام كي يسلم الكيان البشري كله من العاهات العارضة والسدود العائقة.
لقد نظّم الدين عمل هذه الرغبات القوية، وحسّن توجيهها إلى أهدافها، والقيود التي يضعها عليها ليست لإعاقة وظيفتها وإنما لضمان هذه الوظيفة بإبعاد الشطط والغلط عنها.
والإسلام من هذه الناحية يُوصف بأنه مادي كما يُوصف بأنه روحي، وليس لأحد الوصفين ألصق به من الآخر، فكلاهما يومئ إلى جزء من حقيقته، وكل محاولة لسحق الشهوات وتشتيت شملها فهي عطل في جوهر الإنسان، وعجز عن آداء رسالته.. أما الملكات العليا في الإنسان فمحور نشاطها أن الإنسان سيد في هذا العالم، وعناصر سيادته تتكون من تجاوب نفسه مع هذا الكون الكبير.
في النفس البشرية استعدادان متقابلان: السلبية والإيجابية، وهما اتجاهان متعارضان، ولكنهما موجودان جنبًا إلى جنب في هذا الكيان الإنساني العجيب الذي خلقه الله على خير مثال. وكثيرًا ما يؤتى البشر من سوء توجيههم في أحد هذين الاتجاهين أو في كليهما. فالدول الديكتاتورية تضخم جانب السلبية لتضمن السيطرة الكاملة عل كل تصرف من تصرفات أفراد الشعب، محافظة على سلطانها الديكتاتوري. والدول الديمقراطية تبالغ في تضخيم جانب الإيجابية إلى درجة تبيح استغلال الفرد القوي لغيره من الناس استغلالاً ظالمًا. كما تبيح كثيرًا ما يسمونه “الحرية الشخصية” إلى حد يثير الفوضى.
ولقد نفذ الإسلام إلى هذين الخطين المتقابلين فصحح معيارهما بهمّة فريدة تضع كل شيء في نصابه الحق، فتبدو الأمور طبيعية منطقية لا عوج فيها ولا انحراف. ذلك أنه أعطى سلبية مطلقة أمام الله (التسليم المطلق) فالله هو الخالق, وهو المتصرف, وهو المدبر, وهو المعطي, وهو الآخذ, وبيده كل شيء, وهو على كل شيء قدير .
إضافة إلى إيجابية مطلقة إزاء قوى الكون كلها؛ فالكون كله بجميع طاقاته وكنوزه وذخائره مسخّر للإنسان ميسّر لمنافعه.
هاتان حالتان تصطبغ بهما نفس المسلم الموصول بالقرآن، المرتبط بروحه المتأثر بإيحائه.
إن المجال الطبيعي لملكات الإنسان العليا هي البحث في هذا الكون، ومن نتائج هذا البحث يتكون الإيمان بالله وتشرب الأفئدة طرفًا من عظمته، وكل ميدان افتتح للمجادلات الغيبية كان تبديدًا آثمًا لطاقتنا العقلية. وكل عائق اصطنع لمنع العقل الإنساني من التجوال في الآفاق والإئتناس بمجالي القدرة العليا في الأرض والسماء، فهو عائق افتعله الجهل أو الضلال والإسلام منه بريء.
الاستبداد يشل القوى
إن الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعًا، وهو دخان مشؤوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد.
والإسلام ينكر أساليب العسف التي يلجأ إليها أولئك المستبدون في استدامة حكمهم واستتباب الأمر لهم. كما أن الملكات الإنسانية، لا تنشق عن مكنونها من ذكاء واختراع، إلا في جو من الإرادة المطلقة، والحرية الميسرة.
ومما يقترن بالاستبداد السياسي ولا ينفك عنه، غمط الكفايات، وكسر حدتها، وطرحها في مهاوي النسيان ما أمكن، وربما اعتقد المستبد أن كل كفاية إلى جانب عبقريته الخارقة صفر لا تستحق تقديرًا ولا تقديما، وفي رأيي أن حظوظ الأمم من الكفايات متساوية أو متقاربة، وأن أولي النباهة والمقدرة عند أية دولة في الغرب لا يزيدون كثيرًا عن أمثالهم في أي شعب شرقي، كل ما هنالك أن قيادة الجماهير عندهم أخذ طريقه الطبيعي إلى أيدي الأذكياء والأكفياء.
إن المستبد يؤمن بنفسه قبل أن يؤمن بالله، ويؤمن بمجده الخاص قبل أن يؤمن بمصلحة الأمة. وتأخر العالم الإسلامي في القرون الأخيرة مرجعه إلى انتشار هذا الوباء. وفي أثناء مغيب الحرية عن بلد ما، يقل النقاد للأغلاط الكبيرة، أو يختفون وتضعف روح النقد عموماً، أو تتوارى. وحاجة الأمم للنقد ستظل ما بقي الإنسان عرضة للخطأ والإهمال، وما دامت العصمة لا تعرف لكبير أو صغير، فيجب أن يترك باب النقد مفتوحًا على مصراعيه. ويجب أن يحس الحكام والمحكومين بأن كل ما يفعلون أو يذرون موضع النظر الفاحص والبحث الحر، وقيمة النقد في إحسان الأعمال وضمان المصالح لا ينكرها عاقل.
وزاد الطين بلّة شيء آخر.. أننا عندما اتصلنا بالغرب في أثناء القرنين الماضيين وشعرنا بضرورة الاقتباس منه والنقل عنه، كانت أفهامنا من الصغار – ولا أقول من الغفلة – بحيث لم تلتفت إلاّ للتوافه والملذات. فالحرية التي تشبثنا بها ليست هي حرية العقل في أن يفكر ويجد ويكتشف.. بل حرية الغريزة في أن تطيش وتنزو وتضطرم.
الحرية التي نريدها ليست في استطاعة انسان ما أن يلغو كيف شاء!
الحرية التي نريدها ليست في قدرة شاب على العبث متى أراد.
الحرية التي يحتاج اليها العالم الإسلامي تعني إزالة العوائق المفتعلة من أمام الفطرة الإنسانية، عندما تطلب حقوقها في الحياة الآمنة العادلة الكريمة، الحياة التي تتكافأ فيها الدماء وتتساوى الفرص وتكفل الحقوق، وينتفي منها البغي، ويمهد فيها طريق التنافس والسبق أمام الطامحين والأقوياء.